الاحتلال يعتقل 15 مواطنا من الضفة    الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي بحجة الأعياد اليهودية    234 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى    مع دخول العدوان يومه الـ201: الاحتلال يكثف غاراته على قطاع غزة مخلّفا شهداء وجرحى    برنامج الأغذية العالمي: نصف سكان قطاع غزة يعانون من الجوع    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    قوات الاحتلال تقتحم قرى في محافظة جنين    الخارجية الأميركية: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    الصحة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة والضفة إلى34637 منذ السابع من تشرين الأول    في اليوم الـ200 للعدوان: شهداء وجرحى في قصف على مناطق متفرقة من قطاع غزة    المعتقل عزات غوادرة من جنين يدخل عامه الـ22 في سجون الإحتلال    200 يوم من العدوان: الاحتلال يستهدف شواطئ غزة وسلسلة غارات شمال القطاع    استشهاد شاب وإصابة آخرين برصاص قوات الاحتلال في أريحا    مسؤول أممي: اكتشاف مقبرة جماعية في قطاع غزة "مثيرة للقلق" وندعو لتحقيق "موثوق"    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 34,097 منذ بدء العدوان  

ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 34,097 منذ بدء العدوان

الآن

احتلالات تخريب الفكر والادراك- منير فاشه

أمثلة أخرى لاحتلال كلمات ترتبط بتخريب الفكر والإدراك محل كلمات تنبع من الحياة وتتوافق مع الحكمة.
احتلال تعبير "التعليم العالي" محل تعبير، "بيت الحكمة" يمثّل تخريبا للفكر والادراك إذ يتضمّن التعبير الأول إيحاءات فوقية نخبوية تحمل في طياتها عنجهية ممزقة للإنسان والنسيج المجتمعي. تعبير "التعليم العالي" صحيحٌ بمعنى أنه عالٍ عما يجري في الحياة وعلى الأرض ما يجعله سلعة لها قيمة تبادلية في سوق الاستهلاك، لا قيمة نفعية في الحياة. كذلك كلمة university"" التي تعني حرفيا، عالم أحادي هي نقيض كلمة جامعة التي تعني مكانا يجمع بين عوالم عدة متنوعة، كما كان الحال في بيت الحكمة ببغداد حيث كانت تتلاقى وتتلاقح حضارات متنوعة ضمن أجواء غنية حيوية فيها صدق وحرية أنتجت معا حكمة لا يزال العالم يغرف منها، ما يتطلب استعادتها قلبا وروحا. ألغى تعبير، "التعليم العالي" وكلمة "university" التنوع والتعددية في المنهجية والوسيط ومصدر قيمة المرء، حيث أُلْغِيَ التأمل في الخبرات والاجتهاد بتكوين معنى لها وتوليف معرفة وفهم، وحيث أُلْغِيَت المجاورة كوسيط للتعلم، وحيث أُلْغِيَ ما يحسنه الشخص كمصدر قيمته.
الاحتلالات العديدة التي نعيشها عالميا (على أصعدة شتى) تعكس احتلالَ ما له قيمة تبادلية (في السوق) محل ما له قيمة نفعية. أخطر مظاهر هذا الاحتلال في فلسطين حاليا هو تحويل قيمة الأرض من نفعية إلى قيمة تبادلية زائفة حيث ستؤدي، بلا شك، إلى تبخّر المال وخسارة الأرض معا. ما يحدث للأرض حدث قبل ذلك للمعرفة التي ينشرها التعليم الرسمي والأكاديمي اللذين حوّلا المعرفة من قيمة نفعية هدفها تعميق الحكمة إلى قيمة تبادلية تخدم عالم الاستهلاك. خريج جامعة فلسطينية مثلا يستطيع أن يقدم طلبا للالتحاق بأي جامعة في العالم لكن لا نفع لمعرفته في قريته أو مخيمه أو مدينته. يدرس شخص بجامعة أوروبية أو أميركية ويعود لا يجد عملا ويفسر ذلك أن مجتمعنا متخلف بدل أن يعي أن المعرفة التي حصل عليها مصممة على مقاس آيديولوجية الاستهلاك وتراكم رأس المال وليست مرتبطة بالحياة والعافية. رياضيات القبيلة الأورو-أميركية (التي درستُها ودرّستُها سنوات عديدة) لها قيمة تبادلية. لا يوجد مساق رياضيات (في المدارس والجامعات الفلسطينية) له قيمة نفعية بمعنى أنه ينفع المجتمع ويتوافق مع الحكمة وعافية الطبيعة والبشر. مساقات الرياضيات في جامعاتنا منقولة حرفيا عن القبيلة الأورو-أميركية (مربط خيولنا الفكرية). لعل أكبر عامل في تخريب الحياة (خاصة آخر مائتي سنة) هو الربح المركب. لا نسمع أساتذة رياضيات أو اقتصاد يذكرون هذا، ما ينبهنا إلى ضرورة تجنُّب تدريس أي موضوع دون سياق ودون عواقبه. نحتاج إلى الرياضيات ليس كأيديولوجية وأداة سيطرة بل كأداة تساعدنا في رسم صورة ذهنية عن الواقع، تربط الظواهر بعضُها ببعض، بحيث تسهم في فهم ما يحدث في العمق. من الضروري انتزاع أنفسنا من تخصصات أكاديمية ضيقة تمنعنا من رؤية تداخل وتكامل الحياة، وتحوّلنا إلى أدوات ضد مصلحتنا. نحتاج إلى تخصص في حالات تقنية محددة، لكن ليس في تعميق الحكمة وحماية الطبيعة وعافية الحياة. أي حديث عن التعليم يجب أن يشمل التمييز بين القيمة التبادلية والقيمة النفعية للمعرفة. تاريخيا ارتبطت الرياضيات بالعدل والعيش بحكمة وبمعرفة تحوّلات الطقس وعلاقتها بالزراعة. تحوّلت في عصرنا الحاضر إلى أداة للسيطرة والفوز والتخريب (سأسهب في حلقة قادمة حول حكايتي مع الرياضيات).
احتلال آخر مخرِّب (خاصة لنا كعرب) هو احتلال أسماء وصفات وتصنيفات محل أفعال (جذور الكلمات العربية أفعال). التقييم المتمثل برقم/ صفة/ تصنيف احتل محل "يحسن" – فِعْل– كقيمة الشخص. تحويل الأفعال إلى أسماء يحوّل المعرفة من شيء حي وحيوي ومرن إلى شيء جامد لا حياة ولا حيوية فيه. حكم التوجيهي على طالب بناجح/ فاشل يعكس تصنيفا لا فعلا. هذا الاحتلال يعتبر المُخرَجات أهم مما يحدث للبشر. اللغة السائدة تقلع الحكمة والمعنى من جذورهما، إذ ترتبط بالوَهم لا بالفهم. معظم الكلمات الحديثة الشائعة أسماء وصفات ورموز، لا أفعال. استعادة الأفعال في حياتنا سيسهم باستعادة الحكمة والعافية.
سأختار ثلاث كلمات شائعة للتوضيح: تعليم، تنمية، إستراتيجية. يمكن تكوين تعابير عديدة منها: إستراتيجية التعليم في التنمية؛ إستراتيجية التنمية في التعليم؛ التعليم واستراتيجية التنمية؛ تنمية التعليم الاستراتيجي؛ الاستراتيجية في التعليم التنموي؛ تنمية استراتيجيات تعليمية؛ التنمية في استراتيجية التعليم؛ التعليم في التنمية الاستراتيجية؛ الاستراتيجية في تنمية التعليم؛ تنمية استراتيجيات تعليمية؛ التنمية الاستراتيجية في التعليم؛ التعليم الاستراتيجي في التنمية... لغة غريبة رهيبة تبدو على السطح أكاديمية ذات معان عميقة ومعارف متقدمة تحتاج إلى خبراء لتوضيحها، لكن عندما نتمعّن فيها نجد أنها (مثل المتغيرات في الرياضيات س، ص، ع) يمكن وضع مفرداتها بأي ترتيب دون حرج ودون أن يؤثر ذلك على أحد، لأنها لا تقول شيئا، لا هي صائبة ولا خاطئة ولا تقع ما وراء الصواب والخطأ، ولا تخلق صورة في الخيال ولا معنى في الذهن، ولا تشير إلى أي شيء في الواقع ولا تعكس خبرة، ولا يمكن ترجمتها إلى أسلوب حياة، ولا تاريخ لها ولا مرجعية ولا دلالات. الجامعات والمؤتمرات ووسائل الاعلام والمنظمات الدولية والخبراء شغوفون بمثل هذه الكلمات التي تعكس طغيان المصطلحات الحديثة إذ تهزمنا مثل حصان طروادة من الداخل. لغة تلهي وتشوّه وتعمي وتخدّر. تضاعَفَ استعمال هذه اللغة منذ إعلان عصر التنمية (1949). من الضروري التفكر في كيف أصبحت هذه الكلمات البلاستيكية سلعة رائجة في الفكر والتعبير، ولماذا طُمِسَت كلمات غنية بالمعنى ومليئة بالحكمة مثل مجاورة ويحسن ومثنى واجتهاد.
تعبير آخر جميل بالعربية وقبيح بالانجليزية هو "السيرة الذاتية" والمُسْتَعْمَل كرديف لـ "CV" بالانجليزية رغم أنها تتناقض معها كليا. السيرة الذاتية تحكي قصصا وأحداثا وأفعالا ترتبط بحياة الشخص، وتشمل تحولات في إدراكه وقناعاته، بينما "CV" تذكر المؤسسات التي للشخص علاقة بها، ولا تقول شيئا عن الشخص خارج تلك العلاقة. أتحدى الشباب دوما أن يحكوا خمس دقائق أو يكتبوا صفحة عن سيرتهم الذاتية دون استعمال أي كلمة لها علاقة بالمؤسسات – أمرٌ صعبٌ للغاية، لكنه مهم للغاية.

 

Za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024