الصحة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة والضفة إلى34637 منذ السابع من تشرين الأول    في اليوم الـ200 للعدوان: شهداء وجرحى في قصف على مناطق متفرقة من قطاع غزة    المعتقل عزات غوادرة من جنين يدخل عامه الـ22 في سجون الإحتلال    200 يوم من العدوان: الاحتلال يستهدف شواطئ غزة وسلسلة غارات شمال القطاع    استشهاد شاب وإصابة آخرين برصاص قوات الاحتلال في أريحا    مسؤول أممي: اكتشاف مقبرة جماعية في قطاع غزة "مثيرة للقلق" وندعو لتحقيق "موثوق"    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 34,097 منذ بدء العدوان    منظمات "الهيكل" تواصل حشد المستعمرين لاقتحام الأقصى وترصد مكافآت مالية لمن يذبح "القرابين" داخله    "الأشغال العامة" تباشر بإزالة آثار عدوان الاحتلال على مخيم نور شمس    انتشال عشرات الجثامين من مقبرة جماعية بخان يونس    شهيدان برصاص الاحتلال شمال شرق الخليل    الإضراب الشامل يعم محافظات الوطن تنديدا بمجزرة مخيم نور شمس    "فتح": غدا الأحد إضراب شامل حدادا على شهداء طولكرم وغزة    الصحة: 14شهيدا في مجزرة ارتكبها الاحتلال في مخيم نور شمس    عزام الأحمد يتصل ببهية وأحمد الحريري معزياً  

عزام الأحمد يتصل ببهية وأحمد الحريري معزياً

الآن

كانت طائرة ابو عمار ترمز الى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان "6"

الاهداء
في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.
العقيد طيار محمد درويش - العقيد طيار غسان ياسين
المهندس طيار تيودور جيورجي.
اليهم.. اهدي هذا الكتاب
«يحيى»
الفصل السادس

جمعا كمية جيدة من البرتقال والجوافة، وعثرا ايضا على عصير (تبر) صناعة ليبية، وبعد ذلك حملا الصندوق ووضعاه في الظل، في منطقة الذيل تمهيدا لنقله الى مكان افضل. اثناء ذلك تمكن عماد وفتحي الليبي من فتح ثغرة جانبية واسعة في المكان الذي يحتجز به جهاد الغول.. استيقظ جهاد من غيبوبة طويلة قبل لحظات. كان قد وضع على رأسه سترة وجدها قربه لتقيه من الرمال ثم راح في غيبوبة، وعندما استيقظ كانوا يقصون الحديد ويفتحون له ثغرة للخروج.
- هيا.. تقدم..
ظل يتنفس بصعوبة، وعلى الرغم من اصابته بعدة كسور، فانه لم يشعر بالالم، كان يرغب في الخروج من هذا المأزق ليس الا.. خرج، ساعداه على الخروج.. ساعداه على النزول.. واستقبله الرئيس معانقا ومرحبا:
اهلا بجهاد.. اهلا بأخي.. الحمد لله.. الحمد لله.. يا هلا.. يا هلا..
كان الرئيس قد هيأ المكان. اخرج من الداخل كرسيين يلتصقان ببعضهما بعضا، ووضعهما اسفل المأوى الذي نام به الجرحى في الليل.. امسك بيده، واجلسه على احدهما، في حين جلس هو على الكرسي الآخر.
- كيف انت يا جهاد..
اجابه وهو يتنفس بصعوبة:
المهم انت يا اخ ابو عمار.. طالما انت بخير، فنحن جميعا بخير.
وبدأ جهاد بدوره يتفقد الرئيس.. شاهد جرحا تحت الحاجب، بجانب العين، وقد تورم.. ولاحظ التعب والاجهاد على ملامحه، وعبر عن انفعاله باحتضان الرئيس والدعاء له.
ثم جمعوا الالعاب المدفونة بالرمل، العرائس الجميلات بعيونهن الزرقاء ورموشهن الطويلة التي افسدت زينتها الرمال.. اما الشعر الاشقر الطويل فقد خسر تسريحته الانيقة.. ووجدوا لعبة طائر البطريق.. الطائر الذي اتسخ من عصف الرمال بعد ان كان يزهو بلونه الابيض الناصع.. ثم وجدوا الدراجة التي كانت قد طمرت تماما.. ووجدوا ايضا دب الباندا المرقط. كان خيط من الدم قد سال على فروته الصوفية.. لعله دم سال من جبهة احدهم او من ذراعه. حملوا الالعاب ووضعوها تحت الجناح. وتذكر خلدون اطفال المهندس خليل الذين ينتظرون.. يا لهذه الالعاب الجريحة التي تحتاج الى الاسعافات الاولية، والى العناية الفائقة!! جال بصره في شظايا الطائرة المتناثرة بعيدا بعيدا.. شعر بالدوار.. احس بأن ساقيه ستخذلانه، لقد ظلت يده تنزف طوال الليل.. ها هو يضعف ويضعف.. وقال لنفسه:
لا بد من العودة، واخذ قسط من الراحة.
عاد الى مكانه في مخزن الطائرة.. صعد اليها بصعوبة، وتمدد وكان يحلم بغفوة يحلم بكسرة من نوم.
واصل الشباب عملهم فيما ظل الدخان يتصاعد من حرق العجلات، اخرجوا جهاد، وجاء دور المهندس علي غزلان.. قصوا (موكيت) الطائرة، وفتحوا ثغرة فتحوا طاقة صغيرة من جهة الجناح الايمن، اوجدوا منفذا يفضي الى الكابينة. حاول عماد وفتحي الليبي وعبد الرحيم سحب المهندس علي.. كتفه اليمنى مصابة، وثمة ضغط شديد عليه من الامام ومن الخلف، كما ان كرسيا كان يهبط عليه من عل ويلتصق بجسده، انه مصاب بخلع في الكتف، لذلك لم يستطيعوا ان يمدوا اياديهم لسحبه. طلبوا منه ان يساعدهم، وان يحاول ان يسحب نفسه قليلا.. حاول وحاول.. تحرك ثنى جذعه، وانقلب على بطنه، ونتر نفسه الى الخلف.. والآن، اصبح بامكانهم سحبه من الكتف الآخر. ففعلوا ذلك، اخرجوا رأسه اولا.. ثم سحبوه بقوة، من بين انقاض الكابينة.
خرج يتوجع كان بحاجة لقليل من الراحة مددوه على الارض لكي يرتاح قليلا، ثم ساعدوه على المشي وحملوه.. وفي استقباله كان الرئيس يفتح ذراعيه، ويعلن عن ابتهاجه بخروجه سالما. اجلسه الرئيس بجانب جهاد الغول على الكرسي الذي يلتصق بكرسيه.. وتحلق الشباب حولهما. لاحظ الرئيس ان علي يرتجف ففي الجو لسعة برد صحراوية، طلب ان يحضروا له غطاء صوفيا.
- عطشان.. عطشان..
قال علي غزلان الذي كان يتوجع من جرح عميق في رأسه، فقام الرئيس واحضر زجاجة الماء.. بلل طرف منديله بقليل منه، ومسح له شفتيه.. من الصعب اعطاء رجل ينزف جرعة ماء، لان ذلك قد يزيد الامور تعقيدا، ثم وضع بضع نقاط في غطاء الزجاجة، وبلل شفتي جهاد.. وبعد ذلك رفع رأسه.. وتساءل:
- ماذا فعلتم لماهر..
في ذلك الوقت كانوا يحاولون توسيع الثغرة التي تفضي الى ماهر ولكنهم لم يستطيعوا، ومع ذلك حاولوا سحبه. القى فتحي الليبي اليه بسروال وطلب منه ان يمسك به، وشده من الطرف الآخر، لكنه لم ينجح، فالحديد يمسك بتلابيبه ويمنعه من الحركة. ثم رمى له (كابل) من (كابلات) الطائرة كي يربطه بساقه، لكن المحاولة فشلت ايضا. تركوه، وذهبوا يبحثون عن منشار يوسعون به الفتحة، قال لهم الرئيس:
والآن.. وقد طلع النهار، رتبوا الوضع في المخزن لمبيت ليلة اخرى.
حاولا ايجاد فسحة اكبر للمبيت.. ازاحوا الكراسي الى الوراء، رفعوا الارفف عن الطريق، ابعدوا بقايا الامتعة والعجلات، وعلب الزيت.. اصبح هناك غرفة واسعة تتسع للجميع.. ثم نقلوا اليها المواد التموينية والفاكهة وزجاجات الماء.
ادى الرئيس صلاة الفجر، وقف بين يدي ربه، وسجد على الرمال، وصلى عينه تورمت، والوجع يزداد تحت اضلاعه، وفي ظهره. ظل احمد جميل الذي بقي مستلقيا داخل مخزن الطائرة الخلفي ينظر اليه وهو يؤدي طقوس الصلاة، ولاحظ ان الرياح تهب وتؤذي عينيه بما تحمل من رمال ناعمة. دس يده في جيبه، واخرج نظارته الشمسية التي لم يصبها سوء، اخرجها ونادى على عبد الرحيم.. اقترب عبد الرحيم الذي كان منهمكا في البحث عن منشار لتوسيع الثغرة التي تفضي الى ماهر داخل الكابينة.
- اعط هذه النظارة للرئيس.
تناولها عبد الرحيم، ووقف الى ان فرغ الرئيس من صلاته.
- نظارة تقي عينيك من اذى الشمس والرمال.
ابتسم: لمن هذه النظارة.
- انها نظارة احمد جميل.
- انها حاجة ثمينة حقا في مثل هذه الظروف.
شكره واخذها، ووضعها على عينيه.. ثم وقف، واقترب من المقعد المزدوج الذي يجلس عليه جهاد والمهندس علي. كانا مثخنين بالجراح، كان كل منهما يرحل، ويسكن جزيرة بعيدة.. كانا يغيبان ويغيبان.. اقترب من المهندس علي انه احد الملاحين الذين شهدوا اللحظات الاخيرة داخل الكابينة:
- يا علي.. هل تتذكر آخر موقف كان معكم، وآخر اتصال؟
كان علي قد فقد الذاكرة، كما يبدو، فلم يجب بلل له الرئيس شفتيه بجرعة صغيرة من الماء، لعله يتذكر، لعله يقول ما يجعلهم يعرفون موقع الطائرة، وكم هي بعيدة عن اقرب مكان مأهول.. لعله يعطي اجابة فيها بصيص امل. غير انه ظل صامتا. راقب عبد الرحيم ذلك، وفكر من جديد بأن الاقامة قد تطول، وعاد فتذكر الشريط الذي شاهده عن مجموعة من الناس الذين تسقط بهم الطائرة في مكان مهجور، يصارعون من اجل البقاء عدة شهور، وفي النهاية يدركهم اليأس ثم يموتون.. يكتب بعضهم وصايا، وعندما يصل فريق البحث والانقاذ يكون كل شيء قد انتهى.. هل يطول الضياع في هذه الصحراء؟ اية افكار هذه التي تهبط على مخيلته؟ هرب من الاخبار السوداء، بالانخراط في العمل اكثر فأكثر..
لم يجب المهندس علي غزلان، استمع الى اسئلة الرئيس، وحاول ان يقول شيئا، ولكنه عاد وغاب.. رحل بعيدا مع الوجع والآلام الحادة التي تشق رأسه الى نصفين، جرحه في الجمجمة.. جرح ام كسر؟.. نزف ونزف ثم اغلقته الرمال.. تجمد الدم، واختلط بالرمل الناعم، كان منذ الساعات الاولى، يغيب ويصحو، ظل معلقا بين براثن الحديد مدة تزيد على عشر ساعات. عندما اخرجوه، وتمدد قليلا على الرمل، سألهم:
اين نحن؟
اجابوه: في الصحراء قرب الطائرة.
عاد وسألهم: ومتى تقلع الطائرة.
عرفوا عند ذلك انه فقد الذاكرة، فأجابوه: عما قريب تقلع اطمئن.. اطمئن..
كان الرئيس يرغب في معرفة شيء عن الموقع.. عن المكان الذي سقطت به الطائرة، عن بعد المكان عن اقرب موقع فيه حياة، حاول ان يوقظ ذاكرته:
- يا علي. هل تتذكر آخر موقف كان معكم. هل تتذكر آخر اتصال؟
لم يجب المهندس علي. وكانت الاسئلة تكبر في مخيلة الرئيس.. ما هو آخر موقف.. ما هو آخر اتصال مع برج المراقبة؟ وكان يتساءل:
في اي مكان نحن..؟
فكر الرئيس واوغل في التفكير، يتعين عليه ان يعرف كيف يتصرف، فمن يدري كم من الوقت سيمر قبل ان تأتي النجدة. فكر اين يذهب، وفي اي اتجاه فيما لو لم يأت احد.. كان قد سمع ذات مرة، من قائد قوات القدس في السارة عن شاحنة عسكرية ضاعت ما بين الكفرة والسارة، تاهت في الصحراء، فبحثوا عنها، ونشروا الادلاء، والطائرات المروحية، ولم يجدوا الشاحنة الا بعد مرور خمسة ايام.. هل ستأتي النجدة بعد يوم.. بعد يومين.. بعد خمسة ايام؟!! ثم.. لماذا الانتظار.. لماذا لا يجدون طريقهم؟ لماذا لا يبادرون في البحث عن طريق يوصل الى اقرب مكان آهل بالسكان.
سأل محمد الرواس عن آلة التصوير الخاصة به، كان قد سأل عنها اثناء اللليل، فقال له احدهم انه شاهدها في مكان ما خارج الطائرة، سأل عنها فوعدوه بالبحث، لكن الوجع في ظهره وفخذه اشتد، فنسي الموضوع، وحاول ان يتمدد داخل الطائرة، حاول ان يغفو. لم يستطع في البداية ان ينام، مر شريط من الذكريات في خياله، وتذكر فيما تذكر حادث السيارة الذي وقع على طريق عمان - بغداد. لقد طارت سيارة الرئيس في الهواء وهو بداخلها، ثم حطت على الارض، دون ان يصيبه اذى.. شاهدها بأم عينه تعلو في الفضاء ثم تحط على عجلاتها وتتحطم قطع منها ويصاب بعض المرافقين.. لم يصب الرئيس ولم يمسه سوء، ولم يؤثر ذلك على خطته في السفر، واستوعب الحادث سريعا، ومضى كل شيء بعد ذلك كما لو ان شيئا لم يحدث.. ظل يفكر ويفكر، وظل الوجع يتمدد كالخدر في فخده وظهره، وحاول من جديد ان ينام.
ظهر في الافق فجأة سرب من الطيور.. اشاروا بأيديهم اليه، فرفع الرئيس رأسه.. كانت الطيور تقترب وتقترب.. وحين صارت في مجال الرؤية الواضحة تبين انها نوع من العقبان او الصقور الجارحة آكلة اللحوم.. خطر له ان رائحة الدم في الكابينة قد جذبتها، فقال لهم:
- خذوا الحذر.. انها طيور تنتمي الى فئة الصقور الجارحة.. انها تأكل اللحم وتهاجم الجثث، فانتبهوا.
حلقت الطيور على مستوى منخفض، دارت بضع دورات، ثم ابتعدت.. وبعد ذلك قال لهم:
ان وجود هذه الطيور يعني لنا في مكان لا يبعد كثيرا عن المناطق الآهلة بالسكان.
لم يتمكنوا من توسيع الثغرة لسحب ماهر. ظل ماهر يحاول ان يتحرك ان يرفع جسمه عن النتوءات الجارحة وان يتقدم قليلا من الفتحة.. بذل كل جهد ممكن، وتمكن في نهاية الامر من تحرير ساقه.. تمكن من الانسحاب من بين الحطام بوصة واحدة.. وعند ذلك هاجمته الرياح، فعرف انه اصبح قريبا من الفتحة.
ثم بعد لحظات جاءت البشرى الاولى.. اخبر عماد الرئيس ان خزان الماء لم يزل على حاله، وان بحوزتهم الآن خمسة وعشرين ليترا من الماء. شكرا لله، ورفع رأسه الى الافق، كان لا يزال يفكر بطريقة توصله الى اقرب مكان مأهول. رفع رأسه الى الافق، جاءت البشرى الثانية.. شاهد ثلاثة طيور صغيرة من فصيلة السنونو.. اقتربت واخذت تدور حول الطائرة ابتسم الرئيس وقال لمن حوله:
ابشروا.. ابشروا ان هذه الطيور لا تستطيع ان تطير عميقا، لا بد انها قادمة من مكان قريب.. انها اشارة تؤكد اننا نوجد في منطقة آهلة.. تجمعوا حوله.
اقتربوا اكثر فأكثر، ونظروا الى الافق، تسلل الى قلوبهم ما يشبه الطمأنينة. كانوا يحلمون بظل ظليل.. كانوا يحلمون بحمامة وخيوط عنكبوت.. ثم جاءت البشرى الثالثة.. جاء فتحي الليبي راكضا، جاء لاهثا، وقال وقد اضاء وجهه بفرحة غامرة:
- لقد وصلت النجدة.. جاءت السيارات ايها الاخ الرئيس. كان فتحي يبحث حول الطائرة عن اوراق الرئيس المتناثرة بين الرمال. رفع رأسه، فرأى عند ابعد نقطة في خط الرؤية زوبعة من الغبار.. خيل اليه في البداية ان العاصفة ستعود من جديد، وان ما يراه هو مقدماتها.. فصمت وظل يراقب، لم يشأ ان يذهب وينبئ الرئيس عنها، لان ذلك سيربك الوضع ويزيد الامور تعقيدا.. فضل ان ينتظر ويتبين امرها.. ظلت الزوبعة البعيدة تكبر وتكبر، ولكنه لاحظ ان الغبار يتجه نحو جهة واحدة، ثم شاهد السيارات.. كانت تبدو عن بعد بحجم رأس الدبوس، غير انه تأكد انها سيارات، وان ما يراه هو الغبار الذي تثير عجلاتها.
فتح محمد الرواس عينيه على اصوات فيها رائحة الامل، على هرج ومرج.. لقد دبت الحياة فجأة من جديد.. ما الذي يحدث..؟
- وصلت النجدة.
وخيل الى خليل الجمل انه يحلم، الشباب في الخارج يتعانقون وتسيل على خدودهم دموع الفرح. وصلت النجدة. وصل الامل انهم يتحلقون حول الرئيس.. اما عبد الرحيم فإنه ردد بيتا من قصيدة.
مهما هم تأخروا فإنهم يأتون!
حمد الرئيس الله وشكره وصلى ركعتين، وتناهت الى مسامع ماهر الاصوات، وفهم من الكلام ان النجدة قد وصلت، فأضاءت في خياله صورة (هبة الله) شعر ان الله سيمنحه الحياة من اجلها.. من اجل ان يعود اليها ويفتح لها ذراعيه، ويضمها الى صدره. وتحت جناح الطائرة كان طائر البطريق، ودب الباندا، والعرائس، ينظرون الى ما يجري بصمت، وربما بدهشة طفولية.. صلى الرئيس ركعتين، احضروا له معطفه الاخضر القصير فلبسه فوق ثيابه التي تراكمت عليها الرمال، واحضروا له (الكلبك) الصوفي فوضعه على رأسه. كان يشعر باعياء شديد، ومع ذلك تقدم خطوات لملاقاتهم، واثناء ذلك ظلت طيور السنونو تدور حول الطائرة.

صحراء خالية

يمسح الريفي الصحراء بعينيه اللتين تشبهان عيون النسور.. وبجانبه يجلس المقدم رسمي ويوجه حسب البوصلة، التي كان قد ربطها من بداية الطريق على الزاوية المطلوبة. انتهت المسافة التقديرية، انقضى اكثر من مسافة سبعين كيلو مترا حسب التقديرات دون ان يظهر شيء..
بدت من بعيد بعض العلامات الفارقة، فقال الريفي انها براميل فارغة يضعها عناصر الاستطلاع كعلامات وشواخص.. واصلوا السير على هدي البوصلة، وعلى الزاوية نفسها. قال الريفي لنستمر في السير لمسافة اطول، انها تقديرات، والتقديرات قد لا تكون دقيقة، فعلينا ان ندخل في العمق مسافة اخرى..
السيارات الاخرى تسير على نفس النسق، وبنفس السرعة، نظر المقدم رسمي الى ساعته، كانت تشير الى اليوم، الى الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 8-4-1992، عندما رفع رأسه، رأى الريفي وقد تعلقت عيناه عند نقطة ما بالافق..
في تلك اللحظة وفي السيارة الثانية قال صيدم للعميد خالد: يخيل الي انني ارى كومة من بعيد، اغلب الظن انها الطائرة.
هتف الريفي: انها الطائرة.
نظر المقدم رسمي الي حيث تشير عينا الريفي، وكذلك نظر النقيب مسعود باهتمام شديد.
استدار الريفي بالسيارة نحو اليمين، فظهرت امامهم على مدى النظر، على خط الافق نقطة سوداء. استدارت بقية السيارات، اتخذت السيارات الاربع نسقا واحدا وهجمت بسرعتها القصوى نحو الهدف.. تعلقت عينا العميد خالد بتلك البقعة، بتلك الهيئة المختلفة عن لون الرمال..
لم يستطع المقدم صيدم استعمال المنظار، فالسيارة ترتفع وتنخفض وتهتز ولا يستقر لها قرار، غير انه تأكد انها الطائرة.. فها هو الريفي يستدير يمينا ويتوجه نحوها.. ما كذب الفؤاد ما رأى.. انهم يقتربون، وانها تقترب..
تحولت النقطة السوداء الى هيكل. سأله العميد خالد:
- هل تشاهد احدا..؟
اجاب المقدم صيدم وقد بدأ يحبس انفاسه:
لا ارى اثرا لمخلوق..
السيارات تهجم، كأنها احصنة في اللحظات الاخيرة من السباق، يحاول كل منها ان يصل اولا، وتثير وراءها الغبار ثم الغبار ثم الغبار.. بدأ يتضح شكل الطائرة المهشم، وكلما وضحت اكثر كانت القلوب تغوص، اذ لم تبد اية حركة بجوارها..
مرت اللحظات الطويلة القلقة، وفجأة، هتف المقدم صيدم الذي يتمتع بنظر حاد:
انني اشاهد شخصا يتحرك. اذن فهناك حياة حول الطائرة.. يا الطاف الله!!
اشتد السباق..
السيارة الاولى يقودها الريفي والى جانبه النقيب مسعود والمقدم رسمي، وفي صندوقها الخلفي الملازم اول ناهض.
في السيارة الثانية العميد خالد، والمقدم صيدم، وجندي الاشارة.. في السيارة الثالثة المقدم ابو رجب، المقدم ابو طاقية، الطبيب بسام في السيارة الرابعة.. ضباط ليبيون وعدد من الجنود. اقتربوا او اقتربت الطائرة، ظهر ثلاثة اشخاص، وكان الرئيس يتوسطهم. يرفع يديه الاثنتين، ويرسم علامة النصر..
ارتفعت الهتافات فجأة من كل السيارات:
الله اكبر.. الله اكبر.. الله اكبر.. الله اكبر..
قفزت عينا المقدم رسمي من محجريهما وهو يحدق بالرئيس، وبدا كما لو انه سيقفز بعد لحظات عبر الزجاج الامامي.
- الله اكبر.. الله اكبر..
استيقظ الرواس تماما، كان ينام داخل الطائرة، استيقظ وشعر ان الصحراء تهتز، اوقف الريفي سيارته على بعد عشرين مترا. قفز الملازم اول ناهض، وفتح المقدم رسمي الباب.
توقفت السيارات الاخرى في الوقت ذاته، فتحت الابواب، وقفز الجنود من الصناديق الخلفية.
هبط العميد خالد، وتقدم..
كان الرئيس يستند على مرافقيه فتحي الليبي وخلدون، وكان يرفع يديه الاثنتين ويشير بعلامة النصر، بينما دموعه تنهمر..
ظللت المكان مشاعر عاطفية لحظات شفافة، ومرهفة، دمعت العيون..
ظلوا يرددون:
الله اكبر.. الله اكبر..
تقدم العميد خالد، لقد تذكر في تلك اللحظات يوم «الله اكبر» في خلدة يوم المعركة التي شارك بها مع الشهيد عبد الله صيام، اثناء مواجهة الغزو الاسرائيلي لضواحي بيروت.. تقدم، وقد امتلأت عيناه بالدموع، ادى التحية العسكرية، وهجم على الرئيس معانقا. اشار له المرافقان بأن يسلم على الرئيس برفق، لانه يعاني من اصابة في اضلاعه.
اقبل الريفي، والنقيب مسعود، والمقدم رسمي، وبقية الضباط.. ادوا التحية، وعانقوا الرئيس برفق، بينما اللحظة العاطفية تزداد رهافة وشفافية.
قال لهم الرئيس: الجرحى.. يا اخوان.. اسعفوا الجرحى.
اسرع الضباط والجنود الى الطائرة يتفقدون الجرحى، ويبحثون عمن يحتاج الى نجدة واسعاف.
يتبع

 

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024