في اليوم الـ195 من العدوان: قصف مدفعي مكثف على المناطق الجنوبية لمدينة غزة    انتشال جثامين 11 شهيدا في خان يونس    مجلس الأمن يصوّت غدا على عضوية فلسطين في الأمم المتحدة    مع دخول العدوان يومه الـ194: شهداء وجرحى في قصف الاحتلال المتواصل على قطاع غزة    فصائل المنظمة في لبنان: قضية المعتقلين ستبقى حية وعلى سلّم أولويات شعبنا وقيادته    "أونروا": عثرنا في مدارسنا بخان يونس على قنابل لم تنفجر بوزن 450 كيلو غرام    مجلس الأمن يناقش اليوم التحديات التي تواجه "الأونروا"    الاحتلال يهدم منزل أسيرين في بني نعيم شرق الخليل    يوم الأسير الفلسطيني    المجموعة العربية في الأمم المتحدة تدعو جميع أعضاء مجلس الأمن إلى التصويت لصالح طلب دولة فلسطين لعضوية الأمم المتحدة    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 33,797 والإصابات إلى 76,465 منذ بدء العدوان    "فتح" في ذكرى اعتقاله الـ23: محاولات الاحتلال استهداف القائد مروان البرغوثي لن توهن إرادته    استشهاد طفل وإصابة شابين أحدهما بجروح حرجة خلال مواجهات مع الاحتلال في نابلس    إصابات جراء اطلاق الاحتلال النار صوب النازحين عند شارع الرشيد غرب غزة    القائد مروان البرغوثي يدخل عامه الـ23 في سجون الاحتلال  

القائد مروان البرغوثي يدخل عامه الـ23 في سجون الاحتلال

الآن

زياد عبد الفتاح وروايته الحميمة «دار الجيش».. - احمد دحبور


لتجربتي مع زياد عبد الفتاح خصوصية تربط بين الذاكرة والشهادة.. فاضافة إلى معرفتي به منذ تأسيس وكالة وفا التي كان أول رئيس لتحريرها، جمعتنا مجلة لوتس الناطقة باسم كتاب آسيا وأفريقيا، عندما كان رئيسا للتحرير وقد كلفني بمهمة مدير التحرير، والأهم من هذا تلك الصداقة التي جمعتنا حتى لأزعم أني شهدت ولادة ثلاث من رواياته الخمس، وكان بأريحيته الفطرية يتيح لي الاقتراب من نصوصه بأكثر مما تحتمل عين الناقد المحايد.. وزياد عبد الفتاح الذي طرق باب الرواية في كهولته، كان قد سبق ذلك بقصصه القصيرة وكتاباته الصحفية، وكان يقلق على شخصياته الفنية قلقه على ذويه، فكان يكتب بأناقة وحساسية تلامس الشعر، مع استعداد دائم لمراجعة ما يكتب واعادة النظر باستمرار. وزياد، إلى ذلك، كان رئيس تحرير نشرة المعركة التي أصدرتها الثورة خلال اجتياح لبنان، ولم أشاركه في ذلك لأنني كنت يومها في دمشق، إلا أنني أشهد له تعففه عن استخدام قربه من مركز القرار الفلسطيني مع أن ذكرياته عن «وفا» و«المعركة» تكفي لتدوين كتاب تسجيلي. وقد أصدر هذا المولود في طولكرم عام 1939، مجموعته القصصية الأولى «قمر على بيروت» عام 1983، وكتب مجموعة لافتة بعنوان «بلاغ خاص لأحد الرجال العاديين» ومزيجا من القصص والخواطر تحت عنوان «قطة سوداء في الشارع الأخير» - والشارع الأخير، للتذكير، هو الاسم الذي كنا نطلقه على حي الفاكهاني، آخر مواقع الثورة الفلسطينية في بيروت.
أما سجله الروائي فيبدأ بالعمل الذي حشد له معلومات واسعة عن ظاهرة الحاكم - الرئيس في العالم الثالث، وهو رواية «وداعا مريم» ثم أتقن تسجيل معاناة الفلسطينيين على معبر رفح في روايته المؤثرة «المعبر».. أما روايته الثالثة «ما علينا» فترصد جوانب من الخطر المشوب بالقلق والتوتر في حياة الفلسطيني بعد أن أصبحت المقاومة جزءا من حياة ذات أثر وتأثير في السلوك الشخصي والعام..
ولقد كان أبو طارق يسرد علينا، نحن معشر أصدقائه والعاملين معه، بعضا من ذكرياته أيام العمل والاقامة في الكويت، متعذرا ببعض ما مر به من مفارقات، وكان يعد بأنه سيضمن تلك الذكريات في رواية سيسميها «دار الجيش»، وهو الاسم الذي أطلقه مع بعض زملائه في الكويت على مقر اقامتهم هناك. وقد وفى بوعده لنفسه فكتب «دار الجيش» التي صدرت عام 2010 وها أنذا في مواجهة هذا العمل الذي لم أشهد كتابته كما جرى معي في رواياته السابقة. وحتى لا أنسى، أشير إلى أنه كتب رواية للأطفال بعنوان «الأسنان البيضاء» من وحي نضال السود ومعاناتهم من التمييز العنصري.. أما روايته الخامسة «طريق الحرير» فلا تزال مخطوطة وحبرها أخضر لم يجف..
والآن.. عودة إلى دار الجيش!
هذه الرواية..
تنتمي رواية «دار الجيش» إلى ذلك النوع السردي القريب من الأدب القوطي، حيث يعمد المؤلف إلى حشد عدد من الشخصيات في مكان واحد، ليرصد الانفعالات والتطورات والأحداث بقدر من التركيز، كما فعل نجيب محفوظ مع شخصيات روايته «ميرامار»، وجبرا ابراهيم جبرا في «السفينة»، وعلاء الأسواني أخيرا في روايته «عمارة يعقوبيان». وقد تلتقي هذه الكتابة، وإن بشكل غير مباشر، مع بناء ألف ليلة وليلة من حيث تنوع مشارب الشخصيات ودوافعها، وإذا كانت كل حكاية في ألف ليلة وليلة مستقلة بشخوصها، فإن شخصيات «دار الجيش» شأن الروايات الحديثة التي ذكرت، تتقاطع فيما بينها، وإن كان الكاتب كثيرا ما ينفرد بكل شخصية ليتمكن من تقديمها بنوع من الانصاف الدرامي..
ففي دار الجيش هذه، تطالنا شخصيات متنوعة: صالح محمد صالح المعروف باسم صالح أبو سمكة، ويوسف أبو نصرة، وصبحي العمري، وعبد الفتاح الأصفر، وأبو ليلى، وبو يعقوب، ورجاء، وحصة، ومحمود الشيص، والمهندس ولي الدين.. ولا شك أن رواية تقع في ثلاثين وثلاثمئة صفحة تتسع لهذا الحشد من البشر الذين - باستثناء بو يعقوب المواطن الكويتي الفاضل وأولاده - يجمع بينهم أنهم فلسطينيون يعملون في الكويت وتتفاوت علاقاتهم فيما بينهم، وإن كان يجمعهم التواصل والتكافل والحنين إلى الأهل والوطن مع أن بعضهم يصطحب أسرته معه.
وجد أفراد هذا «الجيش» أنفسهم في الكويت، وكل منهم يحمل مسؤولية أسرة كبيرة، لهذا قبلوا بهذا الازدحام في السكن لتوفير النفقات، وكان على كل منهم أن يتحمل اختلاف طباع زملائه، فمن عبد الفتاح الأصفر ذي النوم الثقيل الذي يتشاجر مع من يحاولون ايقاظه، إلى يوسف أبو نصرة الذي لا يكف عن انتقاد سلوك زملائه والتعليق عليهم، إلى صالح محمد صالح الذي تنقل بين مهن لا يعرفها حتى استقر به الأمر عند بيع السمك، فأطلقوا عليه اسمه الجديد فهو صالح أبو سمكة، أما أبو ليلى الفلاح الأصيل، فما أوصله إلى ديار الغربة إلا ضعفه تجاه ابنته ليلى التي يحلم بأن تدخل إلى الجامعة.
وهكذا تلاحق الرواية هؤلاء الفلسطينيين المغتربين إلى تفاصيل التفاصيل بما يستهلك ثلثي الرواية، وبعد ذلك يبدأ التركيز بصورة خاصة على عبد الكريم الأصفر الذي يدعي أنه موظف في البحرية فيحرجه أبو نصرة بعدم تصديقه، ويعمل عبد الكريم لدى بو يعقوب شبه محاسب، حيث ينظم له ديونه على العمال ومداخيله، ويرى عبد الكريم بنت بو يعقوب فيتبادلان الاعجاب الصامت الذي يتحول إلى حب.
أما شقيقه نزار فقد وقع في غرام الفتاة الجريئة رجاء، لكنها سرعان ما انسحبت من عالمه خوفا من أهلها ومن الفضيحة.
وكان أن ظهر في هذه المجموعة ذلك المهندس الغامض الذي لا تعرف متى يطل ومتى يغيب، لكنه ذو نظرة ناقدة وتأثير ملموس.. وسوف يتكشف هذا المهندس، واسمه ولي الدين، عن ناشط سياسي يعد مع أصحاب له لأول تنظيم فلسطيني (أهي اشارة إلى بدايات فتح؟ واذا كان الأمر كذلك فلنتذكر أن الأخ أبا عمار كان في الكويت، وهو مهندس!!) وسيشاركه بينهم في هذا الاهتمام يوسف أبو نصرة. كذلك يتم التعارف على شاب سوري اسمه مهند الميداني وقد سبق له أن خدم في العسكرية، فعمد المهندس إلى تجنيده لتوظيف خبرته في المتفجرات.
وكان أفراد دار الجيش هؤلاء، يعتمدون على بو يعقوب الذي كان في البداية يأخذ منهم ربع مداخيلهم مقابل مساعداته لهم بوصفه مواطنا، لكنه بعد أن تعرف عليهم عن كثب أصبح يقدم خدماته لهم تطوعا وحبا بهم، وقد لمس بو يعقوب حقيقة مشاعر ابنته حصة تجاه نزار الأصفر فشجع العلاقة، وأسهم في تدبير الجنسية الكويتية للأصفر، وظفرت حصة بحبها رغم معارضة شقيقها ماجد الذي لم يستطع إلا أن يستسلم لقرار أبيه.
وتقدم الرواية بنجاح ومن غير افتعال، تدرج انتقال الكويت من عالم البداوة إلى الواقع المديني حيث تطورت العلاقات الاجتماعية شيئا فشيئا، وقد قام نزار الأصفر الموهوب بالرسم على طريقته، بوضع تخطيط فهموا منه أنه صورة بو يعقوب الطالع من البداوة والمطل على الحداثة بانفتاحه الفطري..
ولا شك لدي بأن ما قمت به ليس اختزالا للرواية، بل هو أقرب إلى الجناية الأدبية، لأن الأحداث والتفاصيل أكثر غنى من أن أحيطها بهذه العجالة، وعذري في ذلك أنني أحاول أن أضع القارئ غير المطلع على الرواية في صورة مناخها العام، مع التشديد على أن العمل الفني لا يغني عن تلخيص. فضلا عن ضرورة التنويه برشاقة الأسلوب وعفويته..
هؤلاء الناس
كان لكل من سكان دار الجيش عالمان. فالواحد منهم يأنس إلى زملائه، وقد يشاكسهم ويحصي عليهم مبالغاتهم وتصرفاتهم كما يفعل يوسف أبو نصرة، وقد يدرك الموت المفاجئ بعضهم كما حدث مع أبي ليلى ومع صالح الذي «طق» من القهر وانعدام الحيلة، أما العالم الآخر لكل منهم فهو حضور الوطن في الذاكرة بحيث لا يغيب عن البال.. والواقع أن العاملين الذاتي والموضوعي لهؤلاء الناس قد صهراهم في صيغة جمعية تلزمهم بالتعاطف والتكامل فيما بينهم.. صحيح أنهم لا يجدون عندما يعود كل واحد من عمله الا ورق اللعب، حيث يلعبون من غير مقامرة ويتنافسون لأن المنافسة ضرورية لايجاد الخصوصية، ولكن الصحيح أيضا ان بعضهم كان يختفي فجأة، للبحث عن الرزق، أو لأشغال الحياة المختلفة، فقد غاب محمود الشيص أربعة أشهر وعشرين يوما ليقص على زملائه بعد عودته أنه كان متشردا يتصيد أعقاب السجائر، وأنه كان ينام بين الموتى تقريبا في ظروف قاهرة لا تلائم الكائن البشري، أما عبد الكريم سمارة فقد حصل، كما تقدم، على اقامة وجنسية وفرهما له بو يعقوب، فيما ارتقى صبحي العمري في وظيفته واشترى سيارة فكانت أول سيارة خصوصية تشهدها دار الجيش..
وفي الاشارة إلى اختفاء بعضهم ثم العودة إلى المجموعة تجدر الاشارة إلى ان اختفاء المهندس ولي الدين (ثم ظهوره) كان منطوي على بعد خاص قائم على النشاط السري الذي كان يزاوله المهندس، وقد منح الرواية غموضا يتسم بالتشويق، لتكون المفاجأة أن المهندس كان يضم بعض أفراد دار الجيش إلى نشاطه السري، حيث فاجأنا يوسف أبو نصرة بأنه ملتزم معه على غير توقع منا نحن القراء.
والرواية التي تبدي نزاهة في تقديم المواطن الكويتي الذي يمثله بو يعقوب، تقدم وجها ايجابيا للفتاة الخليجية من خلال شخصية حصة التي تقف الى جانب حبيبها مع الحفاظ على التربية التي وفرها لها ابوها بو يعقوب الذي كان خلافا لابنه ماجد المتعصب، رجلا متسامحا متنورا وبراجماتيا في الوقت ذاته، فهو يسعى لتوفير حياة تريدها ابنته، مدركا انه سيفارقها عما قريب، فقد كان السرطان يفتك به وقد فعل.
اما حياة افراد دار الجيش المعيشة، فيعبر عنها جمع ماء الشرب بالبراميل، وتناوب معظمهم على استخدام الأسرّة في النوم، واكثرهم لم يحصلوا من العلم الا القليل، ولكن ما يجمع بينهم حرصهم على تعليم ابنائهم وبناتهم. وضمن هذه الظروف كانت الدعابة التي اطلقوها على أنفسهم بأنهم جيش، تعبر عن واقع الحال، فهم جيش غير عسكري في خدمة أهلهم اللاجئين المنتظرين.
المرأة النمرة
على كثرة الشخصيات في «دار الجيش» تتميز امرأتان فلسطينية وكويتية بحضور يسترعي الاهتمام والاحترام. فقد طلعت رجاء في حياة نزار الاصفر فجأة، إذ هو شاب وسيم نال قسطاً من التعليم وتراوده احلام اليقظة في ان يسافر الى ايطاليا، بلد ميكيل انجلو، لكنه عمليا مجرد شاب يرسم ويحاول التعبير عن ذاته، وعندما لاحت له رجاء كانت المعيقات تصادر عليه حتى التفكير فيها. فهي نابلسية وهو فلاح لاجئ من قرية يازور، ومع ان الصفتين - الفلاح واللاجئ - تحدان من طموح هذا الشاب في نابلس، الا ان رجاء هي التي سبقته الى المبادرة، فكانت تكاد تأكله بعينيها الجريئتين، فيما يأكله الفضول تجاهها، وهل هي تحدق اليه حقاً أم ان وقوع العين على العين مجرد مصادفة. ولما كانت رجاء اكثر جرأة منه فقد أرسلت اليه صديقتها وطفاء لتخبره هذه بأن رجاء تهتم به. وفي هذه الحال نلاحظ جرأة اثنتين لا واحدة، رجاء المبادرة ووطفاء التي تولت مهمة الابلاغ. ولم يصعب عند ذلك ان يلتقي نزار ورجاء التي ظلت على هجوميتها وجرأتها، حتى انها أخبرته بحبها له واستعدادها ان تقتله اذا خانها او لم يكن لها، فلا حد لاندفاع المرأة عندما تحب. والواقع انه اذا كان من الممكن وجود فتاة مثل رجاء فانه يصعب استيعاب انها تبوح بهذه المشاعر الصادمة. قد تكون فتيات نابلس، كما تقول الرواية، مشهورات بالتحرر والجرأة الا ان الامور نسبية، فهي قد تدفع اليه برسائل حب على مستوى وعيها، ولكن كان من المبكر اجتماعيا ان تجاهر بهذا العشق المتطرف، الا ان سياق الرواية سرعان ما يضع العلاقة في حجمها الطبيعي، عندما يعلم احد كبار السن بالامر فيواجه رجاء التي تنكر ان تكون هي المعنية وتدعي ان اسمها وطفاء فتوقع صديقتها في المشكلة بدلا منها، وتتم المواجهة الحاسمة لتمتنع قسراً عن مواعدة نزار. ومن الناحية الانسانية يمكن لرجاء ارتكاب هذه الخيانة في حق صديقتها، فالتقاليد الاجتماعية القاسية قد تجر الى نتائج محرجة كهذه. وهكذا تبدو رجاء الفتاة المحكومة بعمرها وتقاليد بلدها نمرة مقتحمة في لحظة بينما نراها تنكسر الى حد الخيانة في لحظة تالية لترضى بزواج تقليدي يخرجها من دور الحبيبة المبادرة ويتركها مجرد امرأة شرقية مغلوبة على أمرها ذات ثلاثة أبناء.
ومن المفارق ان الفتاة الكويتية حصة، لا تقل هجومية واندفاعا، يزيدها جرأة ان الشاب المرغوب - وهو عبد الكريم الاصفر - قريب المنال بحكم انه يعمل محاسبا لدى ابيها، وبعد هوى العيون، كما جرى الامر مع رجاء ونزار، تكون حصة هي المبادرة ايضا، بل انها بعد اول عناق مع عبدالكريم تصارحه بما صارحت به رجاء نزارا، وهي انها ستقتله اذا خانها!! والواقع ان هذا التنمر موجود وممكن، ولكن التعبير عنه بالكلمات ذاتها تقريبا في الحالتين، يدل على ان تصور الكاتب لجموح المرأة هو تصور ذهني رغبي في الاساس، وهو لا وقت لديه لتأليف قصة حب شرقية ومتاعب لا نهاية لها في علاقة شاب فلسطيني لاجئ بمواطنة خليجية ذات أسرة مقتدرة، فاهتدى الى ما هو ممكن فعلاً وهو ان والد حصة رجل مستنير علمته الحياة وان لم ينل حظاً من التعليم العالي، فقد أحس بمشاعر ابنته، وتغلب على العقبة الكبرى وهي الجنسية، فحصل بنفسه على الجنسية الكويتية لعبد الكريم وأفاد من وضعه الابوي في هذا المجتمع البطريركي، فضغط على ابنائه الذكور، وجعل من اقتران حصة بعبد الكريم أمراً واقعاً، وكان هذا السياق مدعوماً بظرف طارئ، هو مرض بو يعقوب الذي لا يريد ان يغادر الدنيا تاركاً ابنته لمصيرها بين اخوة ذكور يفرضون عليها مسار حياتها، فالامور من وجهة نظر الاب العاقل مفهومة ومقنعة، ومن وجهة نظر الفتاة مطلوبة متمناة، اما الاولاد فهم ينقادون بعد كل شيء لارادة الاب الذي هو مرجع كل سؤال في هذا المجتمع.
ربما فات حصة دراميا ان تستبسل في معركتها العاطفية لان سماحة الاب سهلت عليها النتائج، ومن يدري فقد كنا سنلمس تناقضات في اندفاع هذه النمرة البدوية، كما رأينا تناقضات رجاء، لكن السياق الفني كان منسجما وطبيعيا، فهي شخصية حقيقية من لحم ودم وليست مجرد انموذج روائي.
عالم المفاجآت
لئن نجح زياد عبد الفتاح في اخراج العربي البدوي من صورته النمطية المحافظة، وأسعفه بو يعقوب برجاحة عقله وسماحته المكتسبة من الخبرة في شؤون الدنيا، الا انه لم يغفل عن الوجه الآخر للمشهد، فيعقوب وماجد واخوتهما رجال محافظون بحيث يكاد يبدو ضربا من الخيال ان يتجرأ لاجئ على طلب يد شقيقتهم. ومع ذلك فهم منقادون، لا محالة، الى قوانين المجتمع الابوي، وعندما يقرر الاب أمراً فهو لا يناقش بل يأمر، ولو كان قراره غير عادل فان النتيجة ستكون في صالح قرار الاب انى كان ما يقرره. لكن هذا ليس كل شيء، فالرواية تدور في فترة حساسة من تاريخ الكويت والخليج عموما، حيث يتشكل الفضاء البدوي بتقاليده العريقة الصارمة، تشكلا جديدا بعد صدمة الحداثة، وما الانتقال التداولي في العملة من الروبية الهندية التي كان يفرضها الانكليز الى الدينار الوطني الذي انجزته المرحلة النفطية، الا بمثابة تعبير عن الحديث والمستجد في حياة هؤلاء البشر!!
على ان الحداثة لا تعني انتقالا ميكانيكيا يقلب الحياة رأسا على عقب، فهناك مفاجآت اجتماعية تكمن في تفاصيل المجتمع، من ذلك حضور اللاجئ غير المواطن لاحد الاعراس المحلية، ليكتشف ان العروس ليست فتاة بل ان الصدمة تقدم فتى ليكون حليلا لفحل الزفاف، وكان يهم الكاتب بطبيعة الحال ان يوضح بأن هذه الصدمة ليست سلوكا عاما، ولكنها قائمة بنسبة ما. وهو اذ يشير على لسان احد ابطاله الى ان ثمة تسامحا في هذه الثقافة مع المثليين، فهو لا يخفي استهجان الرأي العام لهذا السلوك الذي قد يحظى بالاشهار لكنه لا يأخذ طابع الاعتراف. وهو موجود - حسب الرواية - في اوساط الاقليات القومية كالبلوش والمهرة اساسا، ولعل الكاتب لجأ الى هذا التدبير الوقائي ليداري حرجا من اثارة الموضوع. وفي يقيني انه كان من الممكن - ان لم يكن من الضروري - فتح هذا الملف الشائك لا في معرض عدم انكار وجوده، بل من خلال سياق درامي يتلاءم والرواية التي تحتمل بوصفها جنسا ادبيا متطورا مختلف المفاجآت التي تمدنا بها معلومات الحياة، ولا ادري سببا لتبرئة العرب من هذه الظاهرة، فالمثلية موجودة لدى مختلف الاقوام، الا اذا كان الكاتب يريد تقديم معلومة معينة، وان كانت صادمة، عن بعض الاقليات في هذا المجتمع المتعدد.
الارض الارض
تدور احداث هذه الرواية، كما سبقت الاشارة، في مرحلة مبكرة بعد النكبة الفلسطينية التي رافقت زمنيا مرحلة اكتشاف النفط العربي كظاهرة على نطاق واسع. لهذا كان طبيعيا وغير مفتعل ان يكون الفلسطينيون في هذه الرواية جميعا، من الجيل الذي صدمته النكبة، وألجأته الى البحث والسفر والغربة لاعالة الاهل والوقوف على قدمين تواصلان مسيرة الحياة.
فأبو ليلى فلاح عتيق لا يفهم شيئا غير الزراعة والعمل في الارض، وهو اذ وجد نفسه في بلاد كالكويت ليست مشكلتها في نقص المزارعين، بل باستيعاب الادارة الجديدة لتشغيل عمال النفط وملحقاته، فكان عليه لا ان يرضى وحسب، بل ان يسعى الى ايجاد اي عمل يدر عليه دخلا يعيل الافواه المنتظرة في الوطن، ويرسل ابنته ليلى الى المدرسة، وهذا شأن عبد الفتاح الاصفر ايضا، وصبحي العمري، والمهندس، اما صالح محمد صالح الذي صاد سمكة المصادفة وقدمها طعاما لزملائه، فهو منذ ذلك التاريخ صالح ابو سمكة، وكان يمكن ان يسمى صالح الكاربنتر لو ظل في حدود وظيفته الاولى غير الملائمة، الا انه وهو كاربنتر او صاحب مسمكة فيما بعد يظل الفلسطيني اللاجئ المحكوم بالحنين الى طولكرم او شويكة او الارض التي كانت آخر ما يدور في خياله قبل ان يدهمه الموت المفاجئ قهراً وحيرة وأسئلة.
كان من المهم ان هؤلاء المغتربين في هذه الديار العربية، لم يخوضوا معارك طبقية او سجالات تتعلق بطبيعة الاعمال التي يزاولونها، لانهم هناك انما يعملون ليعيشوا ويصرفوا على أسرهم المنتظرة، واذا كان من احتكاك في العمل، وهو ما لم يشر اليه زياد لانه ليس ملزما بذلك فنيا، فهو ذلك النوع من الحساسيات الطريفة بين القادمين الى العمل في الخليج من بلاد عربية مختلفة، الا ان هذا موضوع آخر، والقاسم المشترك بين هؤلاء الفلسطينيين الضاربين في الارض، هو ذلك المفتاح الذي يحفظ به ابو ليلى كما عبد الفتاح وكما قد يكون يحتفظ به ابو نصرة ايضا، وغيرهم، بل كلهم.. انه مفتاح البيت المنتظر في البلاد، وهي مفارقة كبيرة ان يسكن هؤلاء اللاجئون خياما وفي جيوبهم مفاتيح، والى ان تدور تلك المفاتيح في الاقفال المنتظرة داخل فلسطين، سيظل على حامليها ان يعملوا في الكويت والخليج عموما، وعيون قلوبهم تهجس بلا كلل: الارض.. الارض..
انها رواية تغطي فصلا شديد الاهمية من ملحمة التغريبة الفلسطينية.


 
 

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024