فتوح: قمع الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية يكشف زيف وكذب إدارة بايدن    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 34305 والاصابات إلى 77293 منذ بدء العدوان    الاحتلال يعتقل 15 مواطنا من الضفة    الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي بحجة الأعياد اليهودية    234 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى    مع دخول العدوان يومه الـ201: الاحتلال يكثف غاراته على قطاع غزة مخلّفا شهداء وجرحى    برنامج الأغذية العالمي: نصف سكان قطاع غزة يعانون من الجوع    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    قوات الاحتلال تقتحم قرى في محافظة جنين    الخارجية الأميركية: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    الصحة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة والضفة إلى34637 منذ السابع من تشرين الأول    في اليوم الـ200 للعدوان: شهداء وجرحى في قصف على مناطق متفرقة من قطاع غزة    المعتقل عزات غوادرة من جنين يدخل عامه الـ22 في سجون الإحتلال    200 يوم من العدوان: الاحتلال يستهدف شواطئ غزة وسلسلة غارات شمال القطاع    استشهاد شاب وإصابة آخرين برصاص قوات الاحتلال في أريحا  

استشهاد شاب وإصابة آخرين برصاص قوات الاحتلال في أريحا

الآن

ثمة افتخار بالعبودية - منير فاشه

أخطر ما وعيته في حياتي بالنسبة للمدنية المهيمنة هو جعل الناس يفتخرون بالعبودية دون وعي ذلك. معظم (إن لم يكن كل) الحضارات التي سبقتها كان فيها عبيد، لكن لم ينجح أيٌّ منها في جعلهم يفتخرون بعبوديتهم. وعيت هذه الحقيقة عبر تأملي بخبرتي في دراستي وتدريسي للرياضيات سنوات عديدة، واجتهادي خلال تلك السنوات لأفهم ما جرى لي في العمق. ما دعاني للتأمل والاجتهاد هو انزعاجي من التعليم الرسمي والأكاديمي بشتى نواحيه: وجود منهاج يدّعي أن ما في الكتب المقررة معرفة عالمية ومهمة، ووجود امتحان أحادي عام يقيس قيمة المرء بغض النظر عن شغفه وواقعه وما يسعى في البحث عنه، والاعتقاد بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتعلم والتقدم وأن التصنيفات الأكاديمية تعكس الواقع وأن بالإمكان قياس قيمة المرء برقم. ما دعاني أيضا إلى إعادة النظر في معارف تلك القبيلة وضرورة الحذر منها هو أنه يعد من الممكن التغاضي عن التخريب الذي خلقته علومها، والذي كان في أغلبه كان عن تخطيط وسبق إصرار. لا نستطيع أن نستمر بالتحدث عن العلم والمعرفة دون الكلام عن الحكمة كبوصلة ومرجع ومعيار. المعرفة المهيمنة هي الوحيدة التي نجحت في نشر أصوليتها حول العالم، حيث إذا رغب طالب في أن يسير مسارا آخر في التعلم (مسار الحكمة مثلا) فإن ذلك غير مسموح، وإذا رفض السير وفق المسار السائد يُعْتَبَر فاشلا ويعطى شهادة رسمية بذلك دون أن يلاحظ أحد العنف المرافق لذلك – عنفٌ يتم عبر أشخاص يحملون شهادات وألقاب ومناصب عالية ويعملون وفق سلطة تربوية محكومة بقيمتَيْ السيطرة والفوز ونمط الاستهلاك. سبب صعوبة ملاحظة الافتخار بالعبودية هو الإيحاءات التي تُغَلَّف بها، كتدريسها بجامعات مرموقة وربطها بذكاء. أصولية المعرفة هي الأخطر والأعمق والأقل وضوحًا. نتيجة تأملي بخبرتي واجتهادي لتكوين معنى وفهم لها لاحظت أمرا خطيرا للغاية: درست ما أُمْلِيَ عليّ في المدرسة والجامعة دون سؤال ودون معرفة لماذا، ثم درّستها كما أُمْلِيَت عليّ – وجعلوني أفتخر بذلك! ندرّس المتغيرات المعقدة ونظرية الأعداد بدوائر الرياضيات في جامعاتنا مثلا، لا لسبب إلا لأنها تُدَرَّس في الجامعات الأورو-أميركية، ولأن معاشاتنا تعتمد على تدريسنا لها. لم أسأل ولم أعرف سبب دراستي وتدريسي لمثل هذه المساقات، بل فعلت ذلك بإخلاص. أليس اتباع تعليمات وإملاءات دون معرفة لماذا هو معنى عبد بامتياز؟ أعيد: هناك عبيد في شتى الحضارات، لكن المدنية الأوروبية هي الوحيدة التي نجحت في جعل عبيدها يفتخرون بعبوديتهم، والتي انتقلت إلينا عبر إرساليات واستعمار. درَسْتُ مثلا في الصف التاسع (كتاب خلّفه الانجليز وما زلت أقتنيه) موضوع الأسهم والسندات؛ حصلت على علامة كاملة في كل الامتحانات. لا أعرف حتى الآن ما معنى هاتين الكلمتين من خلال خبرة شخصية؛ لم أقتنِ في حياتي أيا منهما. حصلت على علامات كاملة لأني أتقنت مهارة خداع نفسي وخداع المعلمين (الذين مروا بعملية الخداع نفسها) دون وعي؛ أتقنت مهارة حل مسائل بطريقة آلية دون فهم. ما أعماني وخدّرني عن وعي ذلك كان كلمات المديح التي أُغْدِقَت عليّ مثل ذكي ومجتهد والأول في الصف، ومنحي شهادات ووظائف. سؤال يُسْأَل عادة: ماذا عن التقدم الذي نشهده في دول مثل أوروبا وأميركا؟ أمران ضروري أن نتذكرهما في هذا المضمار حتى تستقيم الأمور في إدراكنا. الأول، تقدُّم المدنية الأورو-أميركية هو تقدُّمٌ على صعيد الأدوات وليس جوهر الحياة؛ هو في أغلبه تحسين المظهر وتخريب الجوهر. البيض والبندورة مثلا تحسّنَ مظهرهما وتخرب جوهرهما؛ الخبز الذي نأكله ينصح العارفون بمدى تخريبه تجنُّبه قدر الإمكان. وهذا ما فعلَتْهُ علوم تلك القبيلة أيضا للهواء والماء والتربة والعلاقات: إفسادٌ وتلويث. أما الأمر الثاني فهو أن التقدم الاقتصادي الذي واكب المدنية الأورو-أميركية بُنِيَ على احتلال وتدمير ثلاث قارات، والاستيلاء على مقدراتها، ونهب قارتين أخريين، وما زالت أوروبا تعاني! سألوا مكسيكي: أنتم قريبون من الولايات المتحدة، لماذا لا تتعلموا كيف تصبحوا مثلهم؟ قال: فتّشنا عن قارات ننهبها فلم نجد، كان جميعُها قد نُهِب. باختصار، المدنية الأوروبية ليست مثالا يُحْتَذى بل على العكس، ضروري تجنُّب المسار الذي سلكته، فهو مسارٌ يفتقر إلى الحكمة ولا يتوافق مع الطبيعة. في الوقت نفسه، من الضروري أن نعي أن الشعوب الأوروبية ليسوا أعداء لنا عن وعي إذ كانوا أول ضحايا تلك الأيديولوجية، بمعنى أنهم كانوا أدوات في نشر أوهامها وخرافاتها وأمراضها الفكرية والإدراكية في شتى أنحاء العالم عبر "خبراء" (أجانب ومحليين). ينطبق هذا علينا كأكاديميين ومهنيين إذ ننشر مخدّر وَهْم التقدّم عبر مصطلحات مهنية وتصنيفات أكاديمية نتاجر بها ونبيعها للناس بأسعار عالية. تجارة الكلمات من أنجح التجارات وأخطرها حاليا (ننشرها مثلا عبر ورش عمل وتدريب بيومين أو ثلاثة نمنح في نهايتها شهادات مزورة وضحلة للمشاركين! لذا، ضروري أن نكون حذرين من كلمتي "تطور" و"مساعدة" بمعنى مساعدتنا في تطوير أنفسنا لنصبح مستهلكين لسِلَع مادية وفكرية تفتقر إلى أي قيمة نفعية. عندما لجأت الحكومة اليونانية إلى استفتاء الشعب (عملٌ يعكس ديمقراطية حقيقية، لا شكلية) حول قبول مساعدة من ألمانيا وصندوق النقد الدولي، وصوّتت الأغلبية ضد المساعدة، ثارت "ميركل" والصندوق على حكومة اليونان لأنها تجرأت على سؤال الناس! وصدّقت الشعوب الغربية اتهامهما لشعب اليونان بأنه كسول، متناسية أن المطلوب من ذلك الشعب العمل ليل نهار ليدفعوا ما تسرقه قلّة. بعبارة أخرى، شعب ألمانيا "المتقدم جدا" هو في الواقع ضحية خداع وتخدير. سأقدم في الحلقة القادمة اقتراحا حول التعلم في المرحلة الابتدائية كمثال لما يمكن أن يخرجنا من حالة الوهم والتخدير السائدة، ويضعنا على طريق نكون فيها أقرب إلى الحكمة. 

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024