فتوح: قمع الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية يكشف زيف وكذب إدارة بايدن    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 34305 والاصابات إلى 77293 منذ بدء العدوان    الاحتلال يعتقل 15 مواطنا من الضفة    الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي بحجة الأعياد اليهودية    234 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى    مع دخول العدوان يومه الـ201: الاحتلال يكثف غاراته على قطاع غزة مخلّفا شهداء وجرحى    برنامج الأغذية العالمي: نصف سكان قطاع غزة يعانون من الجوع    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    قوات الاحتلال تقتحم قرى في محافظة جنين    الخارجية الأميركية: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    الصحة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة والضفة إلى34637 منذ السابع من تشرين الأول    في اليوم الـ200 للعدوان: شهداء وجرحى في قصف على مناطق متفرقة من قطاع غزة    المعتقل عزات غوادرة من جنين يدخل عامه الـ22 في سجون الإحتلال    200 يوم من العدوان: الاحتلال يستهدف شواطئ غزة وسلسلة غارات شمال القطاع    استشهاد شاب وإصابة آخرين برصاص قوات الاحتلال في أريحا  

استشهاد شاب وإصابة آخرين برصاص قوات الاحتلال في أريحا

الآن

كانت طائرة ابو عمار ترمز الى القضية الفلسطينية التي حاولوا إلقاءها في صحراء النسيان "7"

الاهداء
في ربيع الشجاعة والبطولة تزهر ذكرى الشهداء في قلوبنا.
العقيد طيار محمد درويش - العقيد طيار غسان ياسين
المهندس طيار تيودور جيورجي.
اليهم.. اهدي هذا الكتاب
«يحيى»
الفصل السابع والأخير
ادى الرقيب مقداد من مرتب الاشارة التحية للرئيس، ثم انتحى ركنا، وانزل جهاد اللاسلكي عن كتفه.. وضعه على الارض ورفع الهوائي..
قال له العميد خالد:
ابلغ القوات وجميع المحطات اننا وجدنا الطائرة، وان الرئيس بخير.
اعد ذلك مرة، وثانية، وثالثة..
ضبط الرقيب مقداد الموجة جيدا، واخذ يبث الخبر.
من العميد خالد الى القوات..
من العميد خالد الى الجميع..
وجدنا الطائرة والرئيس بخير.. وجدنا الطائرة والرئيس بخير.
دخلت على الخط محطة بعيدة، واحدة من محطات اللاسلكي التابعة لمنظمة التحرير في مكان قصي.. لم يكن عامل الجهاز هناك يسمع الصوت جيدا.
اعاد له الرقيب الخبر:
وجدنا الطائرة.. الرئيس بخير.
وجاء صوت عامل الجهاز من الطرف الآخر البعيد:
لا اسمعك جيدا، ولكن اذا كان الرئيس بخير، ارجو منك ان تطلق صفيرا طويلا..
عند ذلك، وضع الرقيب مقداد اصبعيه في فمه، واطلق صفيرا رددت صداه الصحراء.
فتح الطبيب بسام حقيبته، لم يعالج الرئيس لان وضعه جيدا على الرغم من اصابته في عينه وعلى الرغم من بعض الرضوض.
اشار له الرئيس بأن يساعد الاخوة الآخرين..
القى نظرة سريعة على المصابين، وفحص اصاباتهم، بينما هب المقدم صيدم ومن معه لاخراج ماهر من مخالب الحديد.
- الجرحى يا سلطان.. الشهداء يا سلطان.. قال الرئيس.
فأجابه العميد خالد سلطان:
- اطمئن.. الحمد لله على سلامتك، المطلوب يا اخ ابو عمار ان تتحرك الآن الى موقع آمن..
بدا على الرئيس التأثر الشديد، فعاد يردد:
- الجرحى.. الشهداء..
قال العميد خالد: يا اخ ابو عمار، الدواعي الامنية تتطلب ان تتحرك فورا.
أصرّ الرئيس: الجرحى.. الجرحى.. الشهداء..
مشى العميد خالد ودار حول الطائرة، ثم عاد وقال:
- اطمئن: الجرحى الآن يتلقون الاسعافات وكل شيء يسير على ما يرام، وسأبقى بنفسي للاشراف على كل الامور، والآن نرجوك ايها الاخ الرئيس ان تتحرك على الفور.
صعد الرئيس الى سيارة الريفي، ظل قلبه هناك معهم مع انينهم مع الوجع الذي يسبح في عروقهم، مع الآلام التي تنز من جروحهم، ظل قلبه يتلفت خلفه، ظلت مشاعره تشده الى الخلف.
كان متعبا.. مرهقا.. مستنزفا.
عشيت عيناه من شدة انعكاس ضوء الشمس على الرمال، وتحركت شفتاه بالدعاء، بقراءة سورة من القرآن الكريم.
ادار الريفي المفتاح، دارت المحركات.
كان الضباط يقفون وقفة استعداد، لوح لهم بيده، صعد فتحي الليبي الى صندوق السيارة وحمل معه بندقية كلاشينكوف.
تحركت السيارة مشت ببطء، وما لبثت ان انطلقت، واخذت تحرث الارض الرملية، وتترك عجلاتها آثارا لا تنتهي..
كان الريفي ينقل الرئيس الى مقر العمليات الليبية في السارة.
صعد الجنود الى متن الطائرة، الى مكان التجمع داخل الطائرة، كان محمد الرواس لا يزال يشعر بأن الصحراء تهتز، وعندما رآهم انحبست الدموع من عينيه. اخرجوه، واخرجوا فتحي البحرية، واحمد جميل، وخلدون..
كان خليل الجمل ينتظر لم يشأ ان يطلب منهم اخراجه قبل ان يتم اخلاء رفاقه، لكن احدهم شاهده، اذ كانت الكراسي تحجب الرؤية عنه.. رآه فهتف:
- هناك اخ آخر..
اقترب منه جنديان وحملاه، وانزلاه من الطائرة الى الارض، وغير بعيد عنه كانت الالعاب تنتظر: العرائس، طائرة البطريق، دب الباندا، الدراجة النارية، مكعبات ليجو.. كانت نتظر دون ان تبدي اي تذمر.
استدار العميد خالد وعاد يتفقد الطائرة..
المقدم صيدم والجندي طه يعملان على اخراج ماهر من بين الحديد، انهما يوسعان الفتحة الصغيرة التي لا تتسع لرأس طفل صغير.
القى نظرة، ثم ذهب الى الكابينة، رأى الشهداء، فامتلأ بالأسى.. ومن ثم مشى يتفقد الجرحى..
ينهمك الطبيب بسام في معالجتهم، رآه يعالج فتحي البحرية التي تغطي الدماء المتجمدة، وجهه وثيابه، وعلى الرغم من ذلك فانه يتمتع بحالة معنوية ممتازة.
اما جهاد الغول، فقد علا وجهه الشحوب.. ولم يستطع التعرف على الآخرين فقد غطت ملامحهم الرمال والدماء.
كانت اصابة فتحي البحرية حادة. جرح في الرأس سبق ان لفه بقميصه مما اوقف النزف. فحصه الطبيب بسام، ورأى انه من الافضل ترك الامر على حالة، وعدم رفعه، لنقله الى العيادة حيث الشروط افضل. ثم ان هناك آلاما في رجله، ولم يستطع الطبيب التأكد ان كان هناك كسر ام لا؟
بعد ذلك توجه الطبيب بسام الى المهندس علي.. انه يعاني من ثلاثة جروح: واحد في الرأس، وآخر خلف الاذن، وثالث في اعلى الصدر، من جهة اليسار، وربما يكون ثقب احدثته شظايا الحديد.
قام بتطهير خفيف للجروح، اذ اكتشف ان الدم قد تجمد مع الرمال، مما شكل طبقة صلبة فوق الجرح يصعب ازالتها بدون آثار جانبية، ووجد انه من الافضل نقله الى العيادة، واكتفى بتطهير اولي بسيط.
وانتقل لمعالجة الآخرين..
نجح المقدم صيدم ومن معه من الضباط والجنود في توسيع الفتحة المطلة على ماهر. وسعوا الفتحة بالعتلات وبأياديهم.
وبدأ الجندي طه يسحب ماهر من كتفيه، بدأ يسحبه برفق، وصرخ ماهر فجأة، فقد انغرزت حديدة في ظهره.. كانت الشروخ الحادة والنتوءات التي تشبه حد السكين تهدد بتمزيق جلده..
قام المقدم صيدم: لا بد من رفعه قليلا..
كان ماهر قد نتر نفسه قبل وصولهم، واقترب من الفتحة وصار يتعين عليه ان يرفع ظهره عن سكاكين وشفرات الحديد، وان يساعدهم.
جمع شظايا نفسه جمع بقايا الرمق وبقايا القوة ابتلع ريقه.. حلقه جاف، استعان بالله ورفع جسده عن الحديد، وسحب نفسه الى الوراء، امسك الجندي طه بكتفيه، انحنى المقدم صيدم ركع على الارض.. وركع على يديه وقدميه ليحمل جسد ماهر على ظهره عندما يخرج من الفتحة.. تجمع الرجال يسحبون جسده بهدوء ورفق وانتباه وعندما اخرجوه هتفوا: الله اكبر.. الله اكبر.
مددوه على الارض واحضروا باب الطائرة المخلوع، واستعملوه كنقالة وحملوه الى الظل، وفي تلك اللحظة اشتدت حركة الرياح، عقم له الطبيب الجرح العميق في وجهه، قرب عينه اليمنى، نظفه وعقمه عدة مرات، لكن الرمال الناعمة كانت من الشدة بحيث كلما نظف الطبيب الجرح تعود وتطمره بالرمل.
ثم بتضميد رجله بشكل مؤقت لان كسره كان كسرا مضاعفا مفتوحا، ضمده بشكل مؤقت لوقف النزيف، ثم ربط سابقه الى قطعة خشب، وبعدها حقنه بجرعة مسكنة لتخفيف الآلام.
طلب الجرحى الذين جفت حلوقهم من العطش جرعة ماء، بلل الطبيب قطعا من القطن ومسح بها شفاههم.. ثم غسل لهم وجوههم.
اوعز العميد خالد بنقل الجرحى الى السيارات حملوا ماهر اولا.. ثم بقية الجرحى.. عانق محمد الرواس العميد خالد، وقال له: اعرف ان اسمك العميد خالد ولا اعرف اسمك الحركي، لذلك سأسميك من الآن فصاعدا باسم حركي جديد هو «وجه الخير».
كان يتوكأ على جنديين من جنود الشرطة العسكرية فاصابته في فخذه لا تمكنه من السير بمفرده..
وفيما هو يتحرك نحو السيارة، وقعت عيناه على آلة التصوير الملقاة بين الرمال آلة التصوير رفيقته وانيسته، غالية مثل يده اليمنى.. كان قد فارقها مدة اربع عشرة ساعة اطول فترة يفارق بها الكاميرا في حياته.. طلب منهما ان يحضراها خف احدهما وجاء بها.
حملها محمد الرواس بين يديه مسح عن عدستها الغبار كان قد صور بها الرئيس فيما مضى في مواقف تاريخية، صوره بها اثناء زياراته لرؤساء دول واثناء حضوره مؤتمرات عربية ودولية، وفي لحظة اعلان وثيقة الاستقلال واعلان قيام الدولة الفلسطينية.. و.. و... مسح الغبار عن العدسة مرة اخرى، ثم قال لمرافقيه:
اتركاني اقف وحدي..
رفع (الكاميرا) الى عينه وجه عدستها نحو الطائرة والتقط وهو واقف عددا من اللقطات السريعة، وعند ذلك احس بالوجع يلمع في عظم فخذه، لعل عظمة مسكورة انغرزت في اللحم ، صاح من الوقع، وسقط على الارض.
رفعوه، وحملوه الى السيارة وعند ذلك مازحه احدهم قائلا: يموت الزمار واصابعه تلعب.
كان العميد خالد ينتظر وصول الدورية الثانية والدليل عيسى، ليتمكن من العودة الى السيارة ولكنه قرر ان يعود حتى لو لم يصل الدليل. خطر له ان يتتبع في طريق العودة آثار العجلات التي طبعت على الارض اثناء المجيء.. هيأ نفسه لرحلة العودة، جمع ضباطه على عجل، وقفوا قرب الطائرة، اصدر لهم امرا باخلاء الشهداء وجمع الوثائق والاوراق والحقائب الخاصة بالرئيس وبالجرحى والشهداء.. وتأمين الصندوق الاسود وتفتيش الطائرة.
صار الجرحى داخل السيارات، ورافقهم ايضا عماد وعبد الرحيم، اللذان حملا ما تم جمعه من حقائب الرئيس التي يحتفظ فيها بأوراقه ووثائقه وملابسه وحاجياته الشخصية.
كان لا بد ان تذهب جميع السيارات، لذلك وعدهم العميد خالد بإعادة السيارات فور وصوله لنقل جثث الشهداء.
مشت القافلة دون ان تنتظر وصول الدليل عيسى ومن معه، لوح الضباط لهم مودعين.. مضت القافلة بالجرحى ومتاعبهم، بالانين الخافت، والوجع الصامت، والدماء المتجمدة والدموع الخفية والمشاعر والعواطف الصاخبة التي تهز الاعماق.
بقي عند الطائرة مجموعة الضباط المكلفين باخلاء الشهداء من كابينة القيادة وجمع الاوراق والوثائق.. بقي المقدم رسمي، المقدم صيدم، المقدم ابو طاقية، المقدم ابو رجب، النقيب شموط، الملازم ابو سخيلة، والملازم الليبي علي.
في كابينة القيادة المحطمة، كان الكابتن محمد يتمدد وقد غطت الدماء وجهه، اما الكابتن غسان، والمهندس الروماني، فقد كانا معلقين بين الحطام، الرأس الى اسفل، والارجل معلقة في الهواء. وزع الضباط المهمات فيما بينهم، وباشروا العمل.
تم اخلاء جثمان الكابتن محمد.. وفي تلك اللحظة عادت طيور السنونو الى الظهور.. حلقت حول الطائرة.. وواصلت الدوران حول الكابينة، حول المكان الذي يوجد به الشهداء. ثم اخرجوا جثمان المهندس الروماني بعد ان قاموا بتكسير الحديد وشد الكابينة الى الامام ووجدوا فوق صدره باقة ورد متناثرة.
باقة من ورود الفل، وزهور الحنون الحمراء..
اما جثمان الكابتن غسان فقد وجدوا صعوبة في سحبه، حرصوا على اخراج الجثمان دون ان يلحق به تشويه، لذلك اشتد الصراع بين اذرعهم وبين الاذرع الحديدية التي تطبق على الجسد الصامت.
واصلت القافلة طريقها بقيادة العميد خالد.. دخلت السيارات منطقة المطبات، اهتزت السيارات بشدة، ومع كل اهتزازة كان الجرحى يصرخون.
الريق ناشف، والحلق جاف، والوجع يأكل شغاف القلب، والآلام تطلق صرخاتها في هذا الفضاء، ومع ذلك، يتألم العميد خالد على طريقته، ويقول لنفسه لا بد من المضي قدما، والوصول بهم الى المستشفى الميداني لتلقي العلاج.
في الطريق التقوا بالدليل عيسى والدكتور المزين ومن معهما من الجنود. والتقوا كذلك بالمزيد من الادلاء الذين قدموا من الكفرة للمساهمة في البحث..
اخرجوا جثمان الكابتن غسان ووضعوه في صندوق السيارة بجانب جثمان الكابتن محمد والمهندس الروماني. ظلت طيور السنونو تدور حول السيارة.. انها من تلك الطيور الاليفة التي تسكن مع الفلاحين في الارياف، وتعشش في المآذن، وفي زوايا المساجد.
- لا بد انها تبحث عن الماء.
ملأ المقدم صيدم كفه بحفنة ماء وحاول ان يقترب، ظلت العصافير تدور وكانت تقترب من الماء ثم تبتعد.
- من المستحسن ان تضع لها الماء في وعاء.
بحث المقدم صيدم، فوجد بقايا زجاجة مكسورة، ملأها بالماء وابتعد..
هجمت العصافير على الماء هجوم الظامئ الصادي، شربت وبللت ريشها، وواصلت الدوران.
في تلك اللحظة وقعت عينا المقدم صيدم على الالعاب التي تتفيأ ظل الطائرة العاب صامتة كأنها معروضة في واجهة زجاجية، تنتظر الاطفال.. طائر البطريق يحدق في الافق، كأنه يبحث عن سرب مهاجر من فصيلته يعبر الفضاء، العرائس ممدة على الارض، تغلق اعينها، وتنام متدثرة بالاناقة والزينة والمشاعر الطفولية.
دب الباندا المرقط، ترتسم على ملامحه الدهشة، فما الذي جاء به من المناطق الباردة الى هذه الصحراء الحارة!! بحث المقدم صيدم حوله يفتش عن وعاء، فوجد بقايا حقيبة جلدية.. وضع الالعاب بداخلها، وضعها بلطف وتؤدة، كأنما يخشى ان يوقظ العرائس من غفوة لذيذة. حملها ووضعها في صندوق واحدة من السيارات التي تنتظر.. لا بد من المحافظة عليها، وتسليمها لاصحابها.. لا بد من المحافظة عليها!!
مشت القافلة ظلت العصافير تدور حول السيارة التي تنقل الشهداء، مشت القافلة واوغلت في الصحراء، ولم تتوقف العصافير عن الدوران حول الشهداء.
حدث المقدم ابو رجب نفسه:
يا الهي.. كأنها ملائكة من ملائكة الرحمة تزف الشهداء الى الجنة..
كانت تدور بلا توقف كأنها تودع عزيزا عليها، كأنها تدور حول هالة من نور..

الرئيس

خرج من أسر الرياح، فالسيارة تنطلق وتحرث الارض الرملية، الصفراء، البرتقالية، صمت وبقايا رياح كأن العاصفة خلفت وراءها موجات متفرقة من الهواء، فضلت طريقها واخذت تذهب هنا وهناك مثيرة ما يشبه الدخان فوق السطح الراكد من السوافي..
خرج من اسر الرياح، وظل يحدق بالصحراء (عاصفة الصحراء) التي لم تستطع ان ترمي بالقضية بعيدا في زوايا النسيان.
سمع كلمات قليلة عن الليلة الطويلة التي ظل فيها الناس عبر ارجاء المعمورة يتابعون اخبار الطائرة بقلق، وقال لنفسه ان ذلك يبرز المكانة الكبيرة لقضية شعبه في الضمير الانساني.
تذكر وجوها واحداثا، وتذكر مواعيد وارتباطات وتقارير تنتظر فوق مكتبه، وظلت السيارة تنطلق وتهتز وتنقله من واقع الى خيال، ومن خيال الى واقع.. احس بالورم يكبر ويكبر فوق حاجبه، والوجع الخفي يظهر ويعلن عن نفسه مع اهتزاز السيارة. وكان النعاس العنيد يأتي ويروح، واستعان على التعب بالصبر وقراءة القرآن.. وفي لحظة من اللحظات وقعت عيناه على عداد البنزين في لوحة السيارة، فقال بصوت خفيض وهو يبتسم:
- يبدو ان الوقود على وشك النفاد..
فضحك الريفي، واجاب:
- معك حق، لم الاحظ ذلك..
ثم خفف السرعة، وظل يضغط على الفرامل الى ان هدأت وتوقفت، وقال:
- ارجو المعذرة ايها السيد الرئيس.. سوف ازود خزان السيارة بصفيحة بنزين.. انني احمل معي كمية احتياطية.
قفز فتحي الليبي من الصندوق الخلفي، وفتح الباب للرئيس.. هبط الرئيس، حرك ساقيه.. وشعر برغبة في جرعة ماء..
كان الريفي يحمل زمزمية ماء، يعلقها على طرف السيارة، فشرب الرئيس حتى ارتوى.. عبأ الريفي الخزان بالوقود، ثم غسل يديه، ومسحهما، وقبل ان يصعد الى المقود، اخرج من صندوق السيارة حبات من التمر، قدمها للرئيس، اكل الرئيس حبة، والقى بنواتها بعيدا.. كان مذاقها طيبا، فقال:
التمر هو فاكهة الصحراء..
قال ذلك وصعد.. وعند ذلك، عاد الريفي يسوق سيارته وينظر بعيدا.. بعيدا.
كان الرئيس في بداية الطريق قد شكره، وسأله عن اسمه، وعندما عرف انه من عائلة «الريفي» ابتسم، وقال له ان هناك عائلة فلسطينية بهذه الكنية، فنحن عرب واصولنا واحدة.. هل سمعت بذلك الفدائي الشجاع الذي هاجم جنود الاحتلال بسيفه في يافا قبل عدة شهور..
انه من عائلة الريفي المقيمة في غزة.
استعاد كلمات الرئيس، وشعر بالفخر..
وظل يضغط على دواسة البنزين، يستعجل الوقت، ويتمنى لو يطوي الطريق بلمحة بصر، لكي يوصل الرئيس الى مكان يرتاح فيه.
في السارة، على الجانبين، وعلى طول الطريق تجمع الجنود الليبيون، ولوحوا بأياديهم، ورسموا بأصابعهم علامة النصر.
بادلهم الرئيس التحية بمثلها، بل بأحسن منها.. وفي مركز العمليات تلقى اسعافات اولية من مركز الاسعاف الميداني الذي اقيم على عجل.
ثم هيأوا له غرفة داخل (كرافان) غرفة مكيفة ومريحة.
دخل ليأخذ قسطا من الراحة.
وصلت طائرة خاصة لنقله الى (مصراتة) حيث سيكون الرئيس الليبي في استقباله، فقال لهم انه لن يتحرك الا ومعه الجرحى. اجرى عددا من المكالمات الهاتفية مع اعضاء القيادة، ومع افراد اسرته.
وعاد الى غرفته للاستراحة.
وصل العميد خالد ومعه الجرحى.. فطلب ان تقدم لهم الاسعافات ثم ينقلوا الى الطائرة.
جاء بعض الضباط من مقر قيادة القدس، يتقدمهم العقيد عبد الرحيم لتهنئته.
كان العقيد عبد الرحيم قد بقي في المعسكر عندما ذهبت الدورية للبحث عن طائرة الرئيس.
ظل في غرفة العمليات ينتظر الاخبار ومعه المقدم ابو عمرة، والنقيب ابو الروس، وحين اصبحت الدقيقة اطول من عام، ازداد قلقه، وخرج يذرع الساحة المقابلة، ثم دخل غرفة الاشارة. كان الجنود في كل المواقع ينتظرون.. يرسلون من بينهم من يستفسر عن الاخبار بين فترة واخرى.
وفي اللحظة العظيمة، عندما اصبح الفضاء اوسع مما هو عليه عندما جاء عبر خشخشة جهاز اللاسلكي الخبر العظيم على لسان العميد خالد:
وجدنا الطائرة والرئيس بخير.. عند ذلك انطلقت دفعة واحدة، ومن كل المواقع زخات من الرصاص.
اعلن الجنود عن ابتهاجهم باطلاثق الرصاص.
اسرع العقيد عبد الرحيم الى الهاتف العسكري، وطلب من المواقع الانضباط والكف عن اطلاق الرصاص، غير ان الرصاص ظل يلعلع في الفضاء.
كان يعرف انهم يعبرون عن فرحهم بطريقتهم الخاصة، ولم يشعر بالانزعاج لانهم لم يتوقفوا، وكان هو نفسه يحس برغبة في ان يخرج مسدسة ويطلق بعض الطلقات في الهواء.
قال لمن حوله:
الآن نستطيع ان نتنفس بعمق..
احضروا الشاي المغلي مع النعناع، وعندما كان يرتشف الشاي. تذكر فجأة شجرة (مسك الليل) التي تتعربش اغصانها على جدار المدخل.. تذكر ان بعض البراعم قد نبتت على غصن، وخشي ان تكون العاصفة قد اقتلعتها واقتلعت النبتة من جذورها. وضع كوب الشاي وهب واقفا.
ذهب يتفقد النبتة، ويتفقد اغصانها، ويبحث عن تلك البراعم التي بزغت فجأة، وجعلت خياله يذهب بعيدا..
كانت النبتة تتعربش على الجدار، وكانت خضراء يانعة.. ويا للدهشة!! كانت اربعة براعم جديدة قد بزغت على غصن آخر.
يا الهي (قال العقيد لنفسه) لقد ظلت العاصفة تنهشها طوال الليل، فما لوت لها غصنا، وما اقتلعت برعما.
ثم اغمض عينيه، وتخيل البراعم وهي تزهر وتتفتح، وتطلق عميقا عبر هذه الصحراء، رائحتها النفاذة العطرة.
وبعد ذلك هيأ نفسه لزيارة الرئيس، اصطحب معه بعض الضباط وانطلق بسيارته الى مركز العمليات الليبية. استقبلهم الرئيس، سلموا عليه وعانقوه، وابلغوه تحيات ابنائه الجنود وضباط الصف والضباط. سألهم الرئيس عن اخبارهم، وشكرهم على ما بذلوه من جهد.
نقلوا اليه ما سمعوه من المذياع عن صدى الحادث في الوطن المحتل وفي المخيمات، وفي كل مكان..
وعند ذلك قال العقيد عبد الرحيم: سمعنا في الاخبار ان الولايات المتحدة طلبت من اقمارها الصناعية البحث عن طائرتكم وتحديد مكانها فابتسم الرئيس واجاب:
لم أر اقمارا صناعية.. لقد رأيت قمرا عربيا اسمه الريفي.
ثم اصبح كل شيء جاهزا..
الطائرة النفاثة مهيأة للاقلاع، طاقمها في حالة استعداد.
نقل الجرحى اليها، وفي انتظار وصول الرئيس كان الضباط يصطفون قرب بابها.
لم يتأخر كثيرا، اقبل بسيارة عسكرية يرافقه العميد خالد، هبط على مهل وجاهد لكي لا يحس بأوجاعه.. هبط ببذلته العسكرية وهو يضع الحطة والعقال على رأسه.
في وداعه كان النقيب مسعود وعدد من الضباط الليبيين. وفي وداعه كان ضباط من قوات القدس ايضا. ادوا له التحية العسكرية، ثم صعد الى الطائرة، صعد ولوح لهم بيده، وصعد معه العميد خالد.
وجدهم امامه، فتحي البحرية.. كيف انت يا فتحي؟
آه.. ماهر.. انت هنا.. الحمد لله.. كم انا مسرور برؤيتك يا ماهر!!
وانت يا احمد جميل..؟
هل توقف النزيف يا خلدون؟
يا علي غزلان.. ايها الحبيب، هل انت بخير؟
جهاد.. خذوا بالكم من جهاد.. هل تشعر بتحسن؟
وانت يا خليلي.. ما شاء الله.. صحتك ممتازة.
احتضنهم بقلبه قبل ان يحضنهم بذراعيه، ابتسموا له على الرغم من الوجع الخفي، ابتسموا.. وابتسموا.. وواصلوا الابتسام. كأن شمل الاسرة قد التم من جديد. كأنهم غابوا عنه عاما او عامين.
جلس قربهم يحادثهم.. يلاطفهم.. ثم التفت الى العميد خالد وقال له:
ارجو ان تشرف بنفسك على نقل الشهداء الى طرابلس هذا اليوم على متن طائرة خاصة.
اجابه العميد: اطمئن يا اخ ابو عمار فكل شيء سيكون على ما يرام.
ادى له العميد تحية الوداع، فقال له الرئيس قبل ان ينصرف: بارك الله جهودكم وجهود الاخوة الليبيين.. اريد منك ان تشد بالنيابة عني على يد كل جندي وكل ضابط في القوات.. سأعود قريبا لزيارتكم لانني اجد توازني النفسي بين المقاتلين الذين نصروا هذه الثورة في كل المنعطفات.
هبط العميد خالد فأغلقت الطائرة ابوابها ثم اطلقت هديرا عاليا، وما لبثت ان انطلقت بأقصى سرعتها.. ارتفعت في الجو.. واخذت تعلو.
ظل الضباط يراقبونها، وهي تبتعد وتغيب وراء الافق الواسع، حين اصبحت على ارتفاع عال، فوق الغيوم، نظر الرئيس عبر النافذة الى الفضاء الازرق، ورحل بخياله بعيدا، كان ينظر كما لو انه يحدق بالصحو وبالنقاء الذي يعقب المطر.. كأنه ينشد الى ذلك الضوء الذي يبزغ في نهاية النفق.. كان في احلك اللحظات يقول لشعبه انني ارى الضوء في نهاية النفق.. في احلك اللحظات كان يقول لهم سينصلي معا في القدس، ونرفع العلم فوق مآذن القدس، وفوق كنائس القدس، وفوق اسوار القدس.. كان يقول لهم: يرونها بعيدة ونراها قريبة.
اغمض عينيه، وعلى الرغم من كل شيد، كان يراها قريبة، كان يرى العلم، ويسمع النشيد.

 

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024